الأربعاء، أكتوبر 10، 2012

المنحة .. !!

صباح يوم جديد فى قاهرة المعز .. اصوات اتوبيسات النقل العام تملأ سماءها .. طرقاتها تشهد زحاما ملحوظا حول عربات الفول .. المارة يستجدون سائقى السيارات لعبور الشوارع غير آبهين بما يعرف فى كل مدن العالم باشارات مرور المارة و السيارات .. اشتباكات لفظية بين سائقى الميكروباصات امام محطات البنزين 80 .. طلبة المدارس يستعدون لحصتهم اليومية فى معاكسة طالبات الثانوى .. 

كل شئ بدا تقليديا تماما .. صباح عادى تقليدى يتكرر يوميا منذ ستينات القرن الماضى .. و كأن الزمن لا يتقدم .. كل شئ بدا عاديا .. غير اننى كنت فى طريقى الى وزارة الصحة و السكان لأول مرة فى حياتى .. هذا كان استثنائيا .. !!

و لمن لا يعرف وزارة الصحة و السكان .. فهى تقع فى 32 شارع الفلكى بجوار وزارة الداخلية .. و عندما نتحدث هنا عن وزارة الداخلية يجن ان نذكر ان عبور هذا الشارع لا يقل خطرا عن عبور حدودنا مع اسرائيل .. فالشارع ملغم بضباط الشرطة و الأمناء خاصة بعد ثورة يناير .. لا ينقصه سوى التفتيش الذاتى .. !!

عودة لوزارة الصحة ..

الوزارة بها ملحقة لا تختلف كثيرا عن دورة مياه عمومية مهجورة فى منطقة نائية خالية من السكان لا زرع بها ولا ماء .. هى ملحقة استخراج تراخيص مزاولة المهنة .. ليست مهنة الطب و حسب .. انما 15 مهنة اخرى بجانبها تشتمل على التمريض و اخصائيين الأشعة و مساعديهم و .. و .. و .. و .. و .. و غيرها الكثير .. و ناهيك طبعا عن الروتين المصرى و البيروقراطية العقيمة التى انهكت قوايا من السابعة صباحا ابتداءا من الوقوف فى طابور امام مدام زينب لاستكمال الأوراق المطلوبة .. انتهاءا بعم صلاح لتسليمى الترخيص فى تمام الثالثة عصرا .. !!

لم يسترع انتباهى فى كل هذه ( الدوشة ) غير استاذ محمود – على ما اذكر – و هو أشبه بالمدير الفنى لهذا المكان الموبوء .. !!

هذا الرجل الذى يقارب الستين من العمر .. ابيض الشعر .. – عظم على لحم – سوى كرش صغير ليضبط توازنه على الكرسى الخشبى .. و لا يقوى على الحركة .. يجلس امام الباب مباشرة مستندا على عكازه .. مرتديا نظارته – كعب الكباية – .. مطلقا توجيهاته للعاملين و المتواجدين تارة و تهديداته بالغاء اوراقهم تارة اخرى .. يتدخل فى كل كبيرة و صغيرة .. و يلقبونه بالريس .. !!

هذا الريس الذى لم يفارق الشاي يده من كوب الى اخر .. و كأنه سائل الحياه بالنسبة له .. ينادى على مدام زينب بكل ما اوتى من قوة قائلا : " يا زييييييييييزي .. خلصى ورق الأستاذة دى و طلعيه فوق مع صلاح عشان هى هنا من بدرى قوى " .. و بالطبع ترد زيزى بدون تفكير " تؤمر يا ريس " ..

و تتوجه هذه الأستاذة المنتقبة الى زيزى – مدام زينب سابقا – .. و يبدو عليها الانهاك و بصحبتها رجل عجوز يبدو عليه ملامح الوهن و الضعف و قلة الحيلة .. و تبدأ فى شرح مشكلتها لزيزى .. !!

و بعد ما يقرب من 10 دقائق من الشرح و التفصيل .. تطلب منها زيزى التوجه الى الطابق الثانى لمكتب استاذ – مش عارف مين – للتحقق من وجود اسمها فى الكشف .. لتبدأ مغامرة أخرى فى رحلة البيروقراطية المصرية .. و لكن بصحبة والدها المسن .. !!

تمضى الدقائق و الساعات .. و أنا فى انتظار عم صلاح – يحن عليا – و ينادى اسمى ليسلمنى الترخيص حتى استطيع استكمال استخراج كارنيه النقابة .. و لا شئ من حولى يتغير غير ان اعداد المتواجدين تتزايد .. و الريس محمود بدأ فى تناول فاكهة البلح .. مع الشاى .. !!

تظهر المنتقبة مرة أخرى فى المكان و فى يدها الكثير من الاوراق .. تسلمها الى الريس .. لينظر اليها ببرود متناهى و يقلب فى الأوراق بيده – المتعاصة – بلح .. ليتأكد من صحة الأوراق .. و يلوثها .. !!
و يطلب من السيدة الرجوع الى زيزى مرة اخرى .. فتتحرك بسرعة شديدة من اثر – الزهق – و الملل و تطلب من مدام زيزى مراجعة الأوراق و تسألها " فيه حاجة ناقصة ؟؟ " .. لتجيبها مدام زيزى بأن عليها التوجه بهذه الأوراق الى الطابق الرابع حيث يتواجد دكتور سيد – الوكيل – لمراجعتها .. فتستجيب السيدة مسرعة الى السلم حتى لاتضيع مزيدا من الوقت .. لتلتقى والدها العجوز الذى لم يكن قد انهى نزول السلم من مغامرته الأولى فى رحلة البيروقراطية .. و يُصدم بخبر بداية مغامرة جديدة فى هذه الرحلة اللا متناهية .. !!

"اقعد يا بابا ارتاح انت تحت شوية " .. هكذا طلبت منه ابنته بصوت يملؤه العاطفة ممزوجة ببعض من الملل .. فيجيبها " لا يا بنتى انا جاى معاكى " .. !! .. و يستسلم لواقعه المريرة و يبدأ فى ملاحقة ابنته التى استبقته الى أعلى .. !!

و تمضى الساعات .. انا فى مكان لا أتحرك .. الريس محمود يأكل البلح و يشرب الشاى .. و زيزى – فتحاها مسيرة – مع العاملين الأخرين .. و عم صلاح – لسة محنش عليا - .. !!

و مرة أخرى .. المنتقبة بصحبة والدها العجوز مستندا عليها ينزلان الدرج الى حيث نتواجد .. و فى يدها مجموعة كبيرة من الأوراق .. تسلمها الى الريس .. يلوثها بالبلح .. يسلمها الى زيزى .. زيزى ترسلها الى مكتب اخر .. تعود مرة اخرى الى الريس الذى فاجأ الجميع باطلاق تنهيدة طويلة و كأنه تنهيدة الارتياح من ارهاق أكل البلح و شرب الشاى .. قائلا : " كدة خلاص يا ست الكل .. ورق المنحة كله خلص مش فاضل غير الختم دة و بس " .. فتنفرج اسارير الوالد العجوز و بالطبع ابنته التى لم أرى ابتسامتها تحت نقابها .. الا اننى شعرت انها كادت ترقص فرحا .. !!

و يمد الريس يده الى درج مكتب متهالك بجانبه و يخرج منه ختما عفا عليه الزمن .. و يختم الأوراق بقوة 6 ريختر .. حنى ان الختم كاد ان يمزق الأوراق .. !!

و اخيرا .. تذكر ان يمسح يده – المتعاصة – بلح فى طرف جريدة ملقاة على المكتب .. و امسك الأوراق .. وضعها فى دوسيه .. و كتب عليه اسم السيدة .. و طلب منها ان توقع على ورقة .. و سلمها ايصال .. و ابتسامته لا تفارق وجهه الكهل .. و اعتدل فى جلسته و قال : " كدة بح يا ست الكل .. ورق المنحة كدة تمام التمام .. تقدرى تسألى عليها ان شاء الله كمان اربع سنين " .. !!!!!!

!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!

علامات الصدمة على وجه الوالد المسن الذى لم يستوعب ما سمعه و اخذ اطراف الحديث مع الريس نيابة عن ابنته التى غابت فى ثبات عميق .. !!
  
-  نعم .. !
-        ايه .. !!
-        اربع سنين ايه .. !! بتهرج صح .. !!
-        و ههرج معاك ليه .. احنا اصحاب .. !!
-        اومال ايه اربع سنين دى .. !!
-        ايوة اربع سنين .. !! .. المنح بيتبص فيها كل اربع سنين .. !!
-        ايه .. !!
-        يلا يا استاذ عشان فيه غيرك هنا .. !!

ثبات عميق فى المكان .. حالة من الصدمة تسيطر على السيدة و والدها .. و حالة من التعاطف تسيطر علىّ و على المتواجدين فى المكان .. حتى ان المتذمر منهم توقف عن شكواه المستمرة عملا بمبدأ " اللى يشوف بلوة غيره تهون عليه بلوته " .. !!

يبدأ الرجل العجوز ينسحب من المكان ببطء شديد و على وجهه ابتسامه سخرية تكشف العديد من معانى الذل و القهر و الغلب المسيطر على غالبية شعب وطننا .. شعب بلا حقوق .. و ابنته ما زالت ثابتة فى مكانها لا تبرحه .. و كأن – سهم الله – نزل عليها .. لا تفيق الا على صوت والدها القادم من خارج المبنى " يلاااااااااااا يا بنتى بقى " .. فتتنبه لصوته و تنظر اليه نظرة خاطفة ثم تتوجه اليه مستسلمة لمصيرها الأسود .. أسود ظلمات وزارة الصحة .. !!



تعقيب : لمن يشكك فى مصداقية ما أقول و ما أروى .. هذا ما قد رأيت و الله يشهد على ما أقول .. لا أعلم شيئا عن منح وزارة الصحة و لاأعرف صحة مقولة الأربع سنوات .. و لا أعرف اذا كانت هذة السيدة طبيبة ام لا .. و لكنه ما حدث ..  والله على ما أقول شهيد .. !!

 

 

0 التعليقات:

إرسال تعليق

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

يتم التشغيل بواسطة Blogger.